الفصل السابع::
=========
الهجرة إلى يثرب
ومؤامرة قريش::
==========
كانت بيعة العقبة الثانية
أخطر انتصار حققته الدعوة منذ ولادتها،
فقد صار لها اليوم حصن ووطن،
وسط صحراء العرب الواسعة،
وكما أدرك هذا رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
فأسرع في إرسال المسلمين إلي يثرب
ليبادروا إلي تأسيس المجتمع الجديد بها،
فإن قريشًا قد انتبهت لذلك أيضًا،
فأخذت تحول بينهم وبين الهجرة،
وفي ظل هذا المناخ القلق
كان المسلمون يلوذون فرارًا إلي يثرب،
لا يحملون معهم سوي إيمانهم بالله ويقينهم به،
مخلفين وراءهم بيوتهم وأموالهم،
وتجارتهم ومصالحهم،
بل بعض أهليهم في العديد من الأحيان.
وإن هجرة كهجرة أبي سلمة وزوجته،
وكهجرة صهيب الرومي،
أو هجرة عياش بن أبي ربيعة،
لتوضح لنا ما كان المسلمون يلاقونه من كيد قريش
حتى يمنعوهم من الهجرة،
لكن عناية الله ورحمته حالت دونهم وما يبغون،
فما مضي بعد بيعة العقبة إلا شهران وبضعة أيام
حتى لم يبق بمكة من المسلمين
إلا رسول الله،
وأبو بكر،
وعلي
أقاما بأمره لهما،
ومن احتبسه المشركون كرهًا.
_______________________________________
مؤامرة قريش::
=========
إن الخطر الذي كانت تراه قريش بعقلها
حين تفكر في أمر هذه الدعوة
قد أخذ يتجسد الآن
بعد هجرة المسلمين إلي يثرب،
حتى صارت تراه حقيقة بعيونها المندهشة!،
ولئن هي صبرت
علي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*
دون أن تغمد في صدره سيفها فيما مضي
احترامًا لأبي طالب،
أو إبقاءً علي ود بني هاشم،
أو إجلالاً لجوار المطعم بن عدي،
فإن ما يحدث بيثرب الآن يدفعها دفعًا؛
لتجهز علي هذا النبي قبل أن يلحق بأتباعه،
فلا تستطيع رد سهم قد نفذ.
واجتمعت في دار الندوة
في السادس والعشرين من صفر سنة أربع عشرة من البعثة
وجوه قريش الممثلة لكافة بطونها،
وظلوا يتدارسون بينهم
خطة الإجهاز علي نبي الله *صلي الله عليه وسلم*
وانتهت المشاورة
إلي أخبث خطة لقتل من أرسل رحمة للعالمين...
مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*.
_______________________________________________
المشاورة:
======
بين جدران دار الندوة
كانت المؤامرة تحاك خيوطها،
والجريمة البشعة ترسم خطواتها،
ولئن بدأ إخوة يوسف بالقتل حين أرادوا الوقيعة به
ثم انتهوا إلي النفي لصلاح بقي في قلوبهم،
فإن قلوب وجوه قريش المظلمة،
وعقولهم الصدئة
قد أبت إلا تنكب هذا الطريق،
بدأت آراؤهم بقول
ابن الأسود:
نخرجه من بين أظهرنا،
وننفيه من بلادنا،
ولا نبالي أين ذهب،
ولا حيث وقع،
فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
ثم عرجت آراؤهم إلي
قول البختري:
احبسوه في الحديد،
وأغلقوا عليه بابًا،
ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء
الذين كانوا قبله *زهير والنابغة*
ومن مضي منهم من هذا الموت،
حتى يصيبه ما أصابهم.
لكن حظ هذا الرأي من القبول لم يزد عن سابقه،
ثم انتهوا إلي رأي
أبي جهل بن هشام
الذي قال لهم:
والله إن لي فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد!،
أري أن نأخذ من كل قبيلة
فتي شابًا جليدًا نسيبًا وسيطًا فينا،
ثم نعطي كل فتي منهم سيفًا صارمًا،
ثم يعمدوا إليه،
فيضربوه بها ضربة رجل واحد،
فيقتلوه فنستريح منه،
فإنهم إذا فعلوا ذلك
تفرق دمه في القبائل جميعًا
فلم يقدر بنو عبد مناف علي حرب قومهم جميعًا،
فرضوا منا بالدية
فأديناها لهم.
ووافق المتآمرون علي هذا الاقتراح الآثم بالإجماع،
ورجعوا إلي بيوتهم، وقد ظنوا أنهم سينفذونه.
_____________________________________________
أسماء المؤتمرين:
==========
كان المؤتمرون في هذا اليوم
يمثلون وجوه قريش وبطونها،
فعن قبيلة بني مخزوم كان أبو جهل بن هشام،
وعن بني نوفل بن عبد مناف كان جبير بن مطعم
وطعيمة بن عدي،
وعن بني عبد شمس بن عبد مناف
كان شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب
وعن بني عبدالدار كان النضر بن الحارث،
وعن بني أسد بن عبدالعزي
كان أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام،
وعن بني سهم كان نبيه ومنبه ابنا الحجاج،
وعن بني جمح كان أمية بن خلف،
وعند مجيئهم إلي دار الندوة
اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل،
فقالوا له:
من الشيخ؟،
فأجابهم:
شيخ من أهل نجد،
سمع بالذي اتعدتم له،
فحضر معكم ليسمع ما تقولون،
وعسي ألا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا؛
فأدخلوه معهم،
وهكذا اجتمع إبليس الجن مع أبالسة الإنس
علي كيد النبي *صلي الله عليه وسلم*
والله بما يعملون محيط
______________________________________________
هجرة النبي *صلي الله عليه وسلم*::
=====================
"علي رسلك
فإني أرجو أن يؤذن لي".
هكذا كانت إجابة النبي *صلي الله عليه وسلم*
لأبي بكر حين تجهز للهجرة إلي المدينة،
وما إن علم الصديق بذلك
حتى حبس نفسه علي رسول الله *صلي الله عليه وسلم*،
ليصحبه،
وعلف راحلتين بذلك استعدادًا للهجرة المرتقبة،
وفي السابع والعشرين من صفر للسنة الرابعة عشرة من النبوة
جاء الأمر بالهجرة من الله *عز وجل*
إلي رسوله الكريم،
فانطلق في الظهيرة إلي صاحبه أبي بكر،
متقنعًا؛
ليخبره الخبر،
ثم رجع *صلي الله عليه وسلم*
بعد أن أبرم الخطة مع صديقه إلي بيته
ينتظر مجيئ الليل،
أما مشركو مكة
فقد تعجلوا تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة،
وقاموا بتطويق المنزل،
حتى يغمدوا في صدره الشريف سيوفهم
إذا أرخي الليل أستاره،
لكن رافع السماوات بغير عمد،
مالك الملك،
ومدبر الأمر
*سبحانه وتعالي*،
جرت مشيئته بأن يغادر الرسول بيته،
ثم يلحق بأبي بكر؛
ليتحركا إلي غار ثور،
وفي الغار كان اختباؤهما عن عيون قريش،
التي جن جنونها،
وأسرعت في مطاردة الرسول *صلي الله عليه وسلم*،
ولما أعجزها الطلب،
رصدت مكافأة ضخمة
لمن يأتي لها بالمهاجرين حيين أو ميتين،
فاجتمع عليه *صلي الله عليه وسلم*
مع مطاردة قريش
مطاردة سراقة بن مالك أيضًا.
ومضي النبي *صلي الله عليه وسلم*
في حماية ربه وأمنه
قدمًا في الطريق إلي المدينة،
وجرت له بها أحداث عديدة،
منها:
نزوله *صلي الله عليه وسلم* وأبي بكر في خيمة أم معبد،
التي هنئت بمقدمه المبارك،
ومازال الرسول *صلي الله عليه وسلم*
يتقدم في مسيره حتى نزل بقباء،
ثم دخل المدينة التي طال اشتياق أهلها لمجيئه وإقامته بها،
وبعد أيام من وصوله
لحق به أهله *صلي الله عليه وسلم*
وأهل أبي بكر،
ثم كانت هجرة علي *كرم الله وجهه*.
_________________________________________________
الأمر بالهجرة::
========
نزل جبريل الأمين *عليه السلام*
إلي النبي يخبره بمؤامرة قريش،
وأن الله قد أذن له في الهجرة،
ويحدد له وقت الهجرة في قوله:
لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذي كنت تبيت عليه.
ومن فوره ذهب الرسول *صلي الله عليه وسلم*
في حر الظهيرة إلي أبي بكر متقنعًا،
فعلم الصديق أن نبيه لم يأت في هذه الساعة إلا لأمر قد حدث،
واستأذن رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
ثم دخل علي أبي بكر *رضي الله عنه*
قائلاً:
إني قد أذن لي في الخروج،
فأجابه الصديق:
الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟!
فقال *صلي الله عليه وسلم*:
نعم.
وعاد النبي *صلي الله عليه وسلم* إلي بيته
مترقبًا مجيء ليل،
ينتظره معه صناديد قريش!.
____________________________________________________
تطويق المنزل::
=========
أمضي كبراء قريش *بل سفهاؤها*
نهارهم في الإعداد لمعركتهم الكبرى
والتي سيواجهون فيها بشجاعة
رجلاً أعزل ينام هادئًا في فراشه البسيط!!
وبسخرية شديدة
أبدي أبو جهل دهشته المتعالية
من أمر النبي *صلي الله عليه وسلم*
حين وقف مع جمعه الفتي محاصرًا بيت النبوة
غير شاك من نفاذ أمره
قائلاً:
إن مُحَمّدا يزعم
أنكم إن تابعتموه علي أمره
كنتم ملوك العرب والعجم،
ثم بعثتم من بعد موتكم،
فجعلت لكم جنان كجنان الأردن،
وإن لم تفعلوا
كان له فيكم ذبح،
ثم بعثتم من بعد موتكم
ثم جعلت لكم نارٌ تحرقون فيها.
لا شك أن سخريةً ودهشةً
هما أكبر من سخرية أبي جهل ودهشته
ستكون من نصيبنا نحن!! ن
حن الذين نطالع الآن هذا الحدث،
ونحن نعلم كيف سيخيب أبو جهل وفريقه،
وكيف سيخرج النبي *صلي الله عليه وسلم*
من بينهم سالمًا،
وكيف سيكون له فيهم ذبح،
ويكون لأتباعه من بعده ملك العرب والعجم،
أما السخرية فمن موقفه المتعالي ذاك،
وأما الدهشة فمما نعلمه من إصراره علي مضيه في طريقه
بعد ظفره من هذا الحصار بخفي حنين الشهيرين!.
_______________________________________________
الرسول يغادر بيته ::
===========
مر رجل مشرك ببيت مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*
ليلاً فرأي أمرًا عجبًا،
سادة قريش وكبراؤها ينامون حول باب البيت
ورؤوسهم مغطاة بالتراب!!
وبدهشة قد خالطتها السخرية
أيقظهم متسائلاً:
ماذا تنتظرون؟،
فأجابوه بثقة الأغبياء:
مُحَمّدا.
أما مُحَمّد الذي ينتظرونه
فإنه قد خرج من بين صفوفهم المتراصة،
بعد أن جعل عليًا مكانه في الفراش،
وغطاه ببردته،
وأخذ حفنة من التراب
وجعل يذرها علي رؤوسهم،
وهو يتلو:
(وجعلنا من بين أيديهم سدًا
ومن خلفهم سدًا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون)،
وأفاق مشركو مكة علي كلمات الرجل،
التي ألقاها في وجوههم وهو يتولى عنهم متعجبًا
قائلاً:
خبتم وخسرتم،
فو الله مر بكم،
وذر علي رؤوسكم التراب
، وانطلق لحاجته،
لكن النومى المعاندين نفضوا عن رؤوسهم التراب،
وتطلعوا من صير الباب،
فرأوا عليًا،
فطمأن بعضهم بعضًا قائلين:
والله إن هذا لمُحَمّد نائم
، عليه برده.
فبقوا في أماكنهم متيقظين متنبهين
حتى استيقظ علي وقام عن فراشه،
فطاش صوابهم،
وسألوه عن النبي *صلي الله عليه وسلم*
فقال ببساطة:
لا علم لي به!.
__________________________________________
من الدار إلى الغار ومطاردة الرسول:
====================
بينما الليل قد أرخي ستاره علي مكة
في ليلة السابع والعشرين من شهر صفر
للسنة الرابعة عشرة لبعثته *صلي الله عليه وسلم*
إذ سمع أبو بكر الصديق من يطرق بابه،
وعلي الفور استقبل الصديق زائره المرتقب
مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم*،
وأسرع خارجًا معه من باب خلفي بالدار،
وعلي عكس المتوقع،
اتجه النبي *صلي الله عليه وسلم* وصاحبه جنوبًا باتجاه اليمن
وأخذ يجدُّ وصاحبه في السير خمسة أميال
حتى وصلا إلي جبل شامخ،
وعر الطريق،
صعب المرتقي
، ذي أحجار كثيرة
، يعرف بجبل ثور،
فتسلقاه إلي أن انتهيا إلي غار في قمة الجبل،
عرف بغار ثور فدخلاه.
في الغار لا شك أن تاريخ الإنسان علي الأرض
سيظل يحفظ في ذاكرته هذا المشهد باعتزاز وتقدير!
نبي كريم
يحمل النور للبشرية
يقبع في غار مظلم،
وقد أجهده السير،
فوضع رأسه في حجر صاحبه،
ثم نام لكنه الآن ينتبه،
وما أيقظه إلا دموع صاحبه التي انحدرت رغمًا عنه
فوقعت علي وجهه الشريف،
ويسائل مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* صاحبه:
مالك يا أبا بكر؟
فيجيبه الصديق:
لدغت،
فداك أبي وأمي.
إن أبا بكر وقد وجد ثقبين في الغار،
خاف علي نبيه العظيم،
فوضع في كل واحد منهما قدمًا من قدميه،
حتى لدغ،
فأبي أن يتحرك حتى لا يوقظ حبيبه،
حقًا ما أقسى جبل ثور،
وما أرق المشاعر التي حبست في جوفه!،
تفل الرسول صلي الله عليه وسلم* علي قدمه،
فذهب عن أبي بكر ما أصابه،
وبقي المهاجران بالغار ثلاث ليال
يأتيهما عبد الله بن أبي بكر بخبر قريش ليلاً،
ثم يغدو عليهما عامر بن فهيرة مولي أبي بكر بغنم له،
فيشربان من لبنها،
ويعود مولي أبي بكر بغنمه إلي مكة،
مزيلاً بآثارها آثار ابن أبي بكر.
_________________________________________________
مطاردة الرسول *صلي الله عليه وسلم*::
=======================
إن سيوف قريش العازمة علي اختراق جسد النبي الشريف
لم تلق في صبيحتها مُحَمّدا في بيته،
وبدلاً من اعترافها بالعجز أمام قدرة الله تعالي ومشيئته،
استدارت رؤوس الكفر لتصب جام غضبها،
وتظهر مدي شجاعتها علي فتي أعزل،
وفتاة وحيدة،
أما الفتي فكان عليًا،
فضربوه وسحبوه إلي الكعبة،
وحبسوه ساعة،
وأما الفتاة فكانت أسماء بنت أبي بكر،
قدموا إليه بقوتهم المتغابية،
بعد أن عجزوا عن أن يظفروا من علي بمعلومة تفيدهم،
فقرعوا بابها وسألوها عن أبيها،
فأجابتهم بثبات:
لا أدري والله أين أبي،
فرفع المتغطرس الفاحش الخبيث أبو جهل يده،
ولطم خدها لطمة طرح منها قرطها،
ثم مضي يعوي،
وقد لحقه جيش الأغبياء.
واجتمعت قريش،
وأصدرت أوامرها المتعالية الطائشة:
توضع جميع الطرق الخارجة من مكة تحت الحراسة المشددة،
ومن يأت بمُحَمّد أو صاحبه حيًا أو ميتًا
يمنح مكافأة مائة من الإبل.
ينتشر علي الفور
الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب.
لكن ما جدوى ذلك كله
والله هو المقدر والمدبر؟!
نعم وصلت أقدامهم الخائبة إلي باب الغار،
وخشي أبو بكر من افتضاح أمرهما
وقال:
يا نبي الله،
لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا،
وخاف أن يمس رسول الله *صلي الله عليه وسلم* بسوء،
فقال:
إن قتلت فإنما أنا رجل واحد،
وإن قتلت أنت هلكت الأمة،
لكن ما جدوى وصولهم والأمر بيد الله تعالي من قبل ومن بعد؟!
هكذا كان الدرس
الذي نطق به النبي *صلي الله عليه وسلم* متسائلاً:
ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!.
________________________________________
مطاردة سراقة ::
=========
فارس مترجل عن فرسه النجيبة،
يحمل رمحه،
ويسعى خلف رجل أعزل يطلب منه الأمان!
والأعزل يسير قدمًا،
يتلو قرآن ربه،
ولا يلتفت إليه!
تلك هي الصورة التي نقلتها لنا كتب السيرة
لفارس بني مدلج:
سراقة بن مالك بن جعشم،
حين خرج يطارد رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
وصاحبه الصديق
طامعًا في مكافأة قريش،
فعاندته فرسه
وغاصت قوائمها في الرمل مرارًا،
حتى علم أن مُحَمّدا وصاحبه ممنوعان،
وأعطي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* سراقة الأمان،
كتابًا خطه عامر بن فهيرة،
ليحتفظ به سراقة،
سراقة الذي بدأ يومه محاربًا للنبي *صلي الله عليه وسلم*،
ثم أنهي هذا اليوم مدافعًا عنه،
بتضليل المطاردين له،
وصرفهم عن هذا الطريق.
_________________________________________
في الطريق إلى المدينة::
==============
ثلاثة أيام مرت
علي النبي *صلي الله عليه وسلم* وصاحبه في الغار
حتى هدأت المطاردة،
ثم خرجا بعدها ليبدءا رحلتهما إلي المدينة
بصحبة دليلهما عبد الله بن أريقط،
الذي كان علي دين قريش،
وكانا قد عهدا إليه براحلتيهما،
وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال،
وصحبهما أيضًا عامر بن فهيرة مولي أبي بكر،
وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بطعامهما،
ثم تحرك الركب جنوبًا باتجاه اليمن،
فغربًا نحو الساحل
ثم شمالاً بمحاذاة الساحل،
في طريق لا يسلكه أحد إلا نادرًا،
وكان الصديق خلال الرحلة
يفرغ وسعه لراحة النبي *صلي الله عليه وسلم* وأمنه،
فإذا سأله أحد:
من هذا الرجل الذي بين يديك؟،
أجابه:
هذا الرجل يهديني الطريق؛
حتى يخفي حقيقة النبي *صلي الله عليه وسلم*
طلبًا لسلامته،
ودون أن يكذب،
وفي الطريق كانت هناك مفاجأة كبيرة
تنتظر رسول الله *صلي الله عليه وسلم* وصاحبه:
تلك هي اعتراض بريدة بن الحصيب الأسلمي لهما
طمعًا في مكافأة قريش،
لكن رسول الله *صلي الله عليه وسلم* دعاه إلي الإسلام،
فأسلم من فوره مع سبعين رجلاً من قومه،
ونزع عمامته،
وعقدها برمحه،
فاتخذها راية تعلن بأن ملك الأمن والسلام
قد جاء ليملأ الدنيا عدلاً وقسطًا،
وكانت فرحة رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
بهذا النصر الجديد كبيرة،
إذ بإسلام بريدة الذي كان سيد قومه
دخلت قبيلة أسلم في الإسلام،
وصارت قاعدة إسلامية جديدة علي الطريق
بين مكة والمدينة،
ولقي النبي *صلي الله عليه وسلم*
في الطريق أيضًا الزبير،
وهو في كرب من المسلمين،
كانوا تجارًا عائدين من الشام،
فكسا الزبير النبي *صلي الله عليه وسلم*وصاحبه
ثيابًا بيضاء.
___________________________________________
في خيمة أم معبد::
===========
حامل الخير
تجد أثره وريحه حيثما مر!
ولقد مر نبي الله بخيمتي أم معبد الخزاعية،
وكانت امرأة جلدة
تطعم وتسقي من مر بها،
إلا أنها اعتذرت عن تقديم شيء لمُحَمّد وصاحبه قائلة:
والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى،
فجاء النبي إلي شاة ضعيفة،
لم تستطع لشدة ما بها أن ترعي مع الغنم،
ثم مسح بيده الشريفة علي ضرعها،
وسمي الله ودعا،
فامتلأ لبنًا حلبه النبي *صلي الله عليه وسلم*،
ثم سقاها،
فشربت حتى رويت،
وسقي صحبه حتى روي،
ثم شرب وحلب في إناء لها ثانيًا،
حتى ملأه ثم تركها وارتحل،
وأفاقت أم معبد علي صوت زوجها:
من أين لك هذا؟
والشاة عازب
ولا حلوبة في البيت؟!
فأخبرته خبر الرجل المبارك الذي مر بها
فقال:
إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه،
ثم قال:
لقد هممت أن أصحبه،
ولأفعلن إن وجدت إلي ذلك سبيلا!.
أما أهل مكة فقد أصبحوا يسمعون صوتًا
ينشد بأبيات
يصف بها مرور مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* بخيمتي أم معبد،
وهم يتبعون صاحب الصوت ولا يرونه،
فلما سمع الناس صوت هذا الرجل من الجن
علموا أين ذهب مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*.
___________________________________________________
النزول بقباء:
======:
كانت ظهيرة يوم الإثنين
الثامن من ربيع الأول سنة أربع عشرة للنبوة،
ظهيرة شديدٌ حرها،
ألجأت المسلمين
الذين كانوا يخرجون لاستقبال رسول الله *صلي الله عليه وسلم*،
تتنازعهم مشاعر الخوف،
وجواذب الشوق
ألجأتهم إلي الاحتماء ببيوتهم،
وفي هذا الجو القلق،
الذي يغلفه السكون برداء ثقيل،
إذا بصرخة مدوية يطلقها يهودي من فوق مرتفع
تشق عنان السماء
قائلة:
يا معاشر العرب،
هذا جدكم الذي تنتظرون!.
وما كادت هذه الصرخة تصل إلي آذانهم
حتى انطلق المسلمون إلي السلاح،
وتعالت أصوات التكبير فرحًا بقدومه،
وسمع التكبير في بني عمرو بن عوف،
وأسرع المسلمون للقاء المرتقب،
لقاء خير الأحبة،
وسيد الأنام،
حامل النور والهداية،
مُحَمّد بن عبد الله
فأحدقوا به،
وأحاطوه وقد كسته السكينة،
والوحي يتنزل عليه بقول ربه *عز وجل*:
(فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين،
والملائكة بعد ذلك ظهير)،
وكان يومًا مشهودًا
زحفت فيه المدينة بأسرها لاستقبال الرسول،
ونزل في بني عمرو بن عوف،
ونزل بقباء
علي كلثوم بن الهدم،
وأقام بها أربعة أيام،
أسس خلالها مسجد قباء وصلي فيه،
فلما كان بها اليوم الخامس *يوم الجمعة*؛
أرسل إلي أخواله من بني النجار،
فجاءوا متقلدين سيوفهم،
فركب وأبو بكر خلفه،
وسار نحو المدينة،
حتى أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف،
فصلي بهم الجمعة وكانوا مائة رجل
(يتبع)
====
_________________________________________________________
الفصل الثامن::
=========
الدخول في المدينة
===========
إن عافية الله الواسعة،
والتي سألها مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* ربه
والدماء تغطي عقبيه،
وهو مطرود ملاحق من سفهاء الطائف
تتبدى الآن إحدى آياتها،
فطرقات المدينة وبيوتها
تهتز بأصوات التكبير والتحميد،
وبنات الأنصار ينشدن الأناشيد فرحًا بقدوم النبي
، ونبي الله يتجاذب خطام راحلته أهل الأنصار
وكل يقول له:
هلم إلي العدد والعدة،
والسلاح والمنعة،
وهو يقول لهم:
خلوا سبيلها فإنها مأمورة.
أما دابة النبي *صلي الله عليه وسلم*
فكان من توفيق الله لها
أن بركت في ديار بني النجار
*أخوال رسول الله*
من كان يحب أن ينزل عليهم،
ونزل عنها النبي *صلي الله عليه وسلم*
وأقام في بيت أبي أيوب الأنصاري،
وأخذ أسعد بن زرارة بزمام راحلته فكانت عنده،
وهكذا صار لدعوة الله دار تعيش بها،
وصار لقيادتها حصن تأوي إليه،
وبقي للإسلام أن يخوض معركته الكبرى
بتأسيس مجتمع جديد!
وقد دعا نبي الله *صلي الله عليه وسلم* للمدينة
حين أخبرته زوجه عائشة بمرض أبي بكر وبلال
فقال:
اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حبًا،
وصححها،
وبارك في صاعها ومدها
وانقل حُمَّاها
فاجعلها بالجحفة.
___________________________________________
هجرة أهله وأهل أبي بكر::
===============
بعد أيام من وصوله إلي المدينة
وصلت إليه زوجته سودة،
وبنتاه فاطمة وأم كلثوم،
وأسامة بن زيد،
وأم أيمن،
وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر
بعيال أبي بكر
ومنهم عائشة،
وبقيت زينب عند أبي العاص
لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر.
_______________________________________
هجرة علي *رضي الله عنه*::
=================
إن رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
الذي أحاط به قومه ليقتلوه ليلة الهجرة
أوصي عليًا حين جعله مكانه في فراشه
أن يرد الودائع التي عنده لأهلها من قريش،
وما إن قام علي بن أبي طالب بمهمته تلك
في أيام ثلاثة
حتى هاجر ماشيًا علي قدميه؛
ليلحق بنبيه بقباء،
وينزل عند كلثوم بن الهدم.
____________________________________________
الدفاع عن المدينة::
===========
الماء الساكن خلف السد لا تدرك قيمته حتى يتدفق تياره،
والحجرة المظلمة لا يري جمالها حتى تضاء أركانها،
وكذلك المدينة عند الهجرة
كان بها كثير من الخير الساكن،
وبعض الأركان المظلمة،
وتغير ذلك كله
كان ينتظر وصول مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*
والذي ما إن وصل
حتى بدأ في تأسيس مجتمع جديد
قبل أن ينزل عن راحلته،
لكن أني للكفر أن يهدأ،
وهو يبصر الإيمان ساعده يشتد،
وجنوده تتجمع.
لم تستطع قريش أن تكظم حقدها
فأرسلت تهدد المسلمين وتتوعدهم،
وهنا أنزل الله الإذن بالقتال أولاً،
ثم فرض القتال بعده،
وكما كانت قلوب المسلمين
تهفو إلي مكة
حوَّل الله صدورهم في الصلاة إلي الكعبة
بنزول الوحي بتحويل القبلة.
وما إن مر شهر علي تحويل القبلة،
حتى ساق الله المسلمين دون تهيؤ منهم
إلى غزوة بدر الكبرى
فكان نصرًا كبيرًا،
ونجاحًا مؤزرًا،
تلته أعياد أقيمت،
وفروض فرضت.
واستمر الجهاد
حتى كانت غزوة أحد في العام الثالث للهجرة،
ولم يكد المسلمون يضمدون جراحاتهم،
حتى استأنفوا جهادهم دفاعًا عن دولتهم الفتية،
وأدركت قريش أنه لا قبل للمشركين بمحاربة المسلمين،
إلا إذا اتحدت فصائلهم،
وتجمعت أشتاتهم،
فألفوا الأحزاب،
وأحاطوا بالمدينة ينوون استئصال خضرائها،
وإبادة ساكنيها،
فكانت غزوة الأحزاب،
التي نصر الله فيها عبده،
وأعز جنده،
وهزم الأحزاب وحده،
وقد كشفت هذه الغزوة عن لؤم اليهود وغدرهم؛
فتلاها الرسول *صلي الله عليه وسلم* بغزوة بني قريظة،
وظل النشاط العسكري متقدًا بعدها
حتى كانت وقعة الحديبية،
والحق أن مكائد اليهود،
والدور الذي لعبه المنافقون
جعل مهمة الدفاع عن المدينة،
لاتقتصر علي حماية حدودها فحسب،
بل تشتمل أيضًا محاربة أعدائها الكامنين داخل الأسوار.
_________________________________________________
المدينة عند الهجرة::
============
يظن البعض أن رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
القادم من مكة
المشتعلة حربًا عليه وعلي دعوته،
قد دخل المدينة الهادئة الوادعة،
ليتمتع فيها بالاستقرار والراحة،
والحق أن هذا ظن قد فاته الصواب!.
إن دخول الإسلام إلي المدينة
قد بدل واقعها من حال إلي حال،
وإن دخول مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* إلي المدينة
كان في قمة هذا التحول!
أهل المدينة كانوا
أوسًا
وخزرجًا،
فصاروا
مسلمين
ومشركين،
والروابط كانت للعشيرة،
فأصبحت للعقيدة،
ومهاجرو مكة أضحوا مواطني المدينة،
وحرب بعاث أمست رمادًا،
والحكم صار لله،
ودار الحكم موقعها المسجد،
ومُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* يحكم بأمر ربه،
أما تاج ابن أبي فقد طواه النسيان،
ويثرب التي كانت تأمن من حولها،
الآن تواجه الخطر من قريش والعربان،
وأكثر من ذلك كله تنظيم الديار حول المسجد،
وتغيير الأعراف الاجتماعية،
وزوال أخلاق الجاهلية،
وإشراق أخلاق الإسلام،
وتجديد أسواق المدينة وعلاقاتها الاقتصادية،
كل ذلك التحول الذي بدأه إيمان ستة من أهل يثرب،
وزاده انتشار الإسلام في بيوتها
وقدوم المهاجرين إلي ديارها
شهد الرسول أقصاه
حين دخل المدينة القلقة،
وحين تعامل مع أهلها،
مسلمين،
ومشركين،
ويهود
فأقام مجتمـعًا
قاوم محاولات تفتيته بقوة وعزم.
______________________________________________
المسلمون بالمدينة ::
============
لم يكن مسلمو المدينة علي وجه واحد،
بل كان منهم المهاجرون
الذين خلفوا وراءهم أموالهم وديارهم وبعض أهليهم،
طاعة لرسول الله،
ونصرة لدين *الله عز وجل*،
كما كان منهم الأنصار المقيمون بديارهم،
واشتمل رهط الأنصار علي شعبتين؛
الأوس
والخزرج،
وقد تجلت عظمة الإسلام،
وحكمة نبيه
في تحويل هذه الخيوط المتعددة
إلي نسيج واحد،
تجمعهم المؤاخاة
وتؤلف العقيدة بين قلوبهم.
_______________________________________
المشركون بالمدينة ::
=============
"لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ،
ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم،
تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم"؟!
هكذا انطلقت كلمات رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
تشق غبار حرب
أعلنها مشركو المدينة علي مسلميها،
وهكذا كانت خطته الحكيمة!
فالمشركون يخيفون الناس من خطر قريش القادم،
ويَدَّعون الحكمة في قتال المسلمين،
ويجعلون من المسلمين عدوهم،
أما رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
فهو يعلن في جمله الثلاث تلك المتعاقبة،
أن الخطر في قتال الأهلين من المدينة،
والغفلة والسفاهة في إعلان هذه الحرب،
وأن العدو الأوحد لكلا الفريقين
هو تجمع قريش بمكة!،
وبكلماته تلك الحاسمة،
استطاع أن ينهي حربًا كاد أن يستعر لهيبها!!
وأن يقاوم محاولة لتفتيت المجتمع بالمدينة.
والحق أن غالب مشركي المدينة
لم يكونوا علي هذا القدر من الحقد والضغينة،
فسوي عبد الله بن أبي الذي كاد أن يتوج ملكًا،
لولا قدوم رسول الله *صلي الله عليه وسلم* إلي المدينة،
وسوي من معه من الرؤساء الذين انهارت زعامتهم الجاهلية
بظهور نور الإسلام،
لم يكن هؤلاء المشركون يبطنون العداوة للإسلام،
بل كانوا علي شك من دينهم،
وتردد في تركه حتى انتقلوا إلي الإسلام أرسالاً.
___________________________________________
اليهود في المدينة ::
===========
بنو قينقاع
وبنو النضير
وبنو قريظة،
تلك قبائل اليهود الثلاث التي كانت تقطن المدينة،
وهم رغم أصولهم العبرانية
إلا أنهم صبغوا بالصبغة العربية
في الزي
واللغة
والحضارة؛
لطول ما أقاموا في بلاد الحجاز.
وقد كانوا يرون أنهم أصحاب علم وفضل
وقيادة روحانية،
لأنهم أهل كتاب
ليسوا كوثنيي العرب،
وكانوا يعلمون أن نبيًا قد أتي زمانه،
واعتقدوا أنه من نسلهم،
وتوعدوا أهل يثرب بقتالهم تحت إمرته.
وامتاز اليهود بالمهارة في فنون التجارة،
فكانوا يوردون
الثياب
والحبوب
والخمر
إلي المدينة،
ويصدرون تمرها،
كما كانوا يضاعفون ثرواتهم من التعامل بالربا،
وقد سقط في أيديهم حين رأوا مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم*،
لعلمهم بصدق نبوته،
وخروجه عن بيتهم،
وشعورهم بزوال مكانتهم،
وضياع مصالحهم،
باهتداء من حولهم من العرب،
إلي دين الله القويم؛
ولذا كتموا عداوتهم حينًا،
وأظهروها حينًا آخر،
وأعماهم حقدهم حتي تحالفوا مع عباد الصنم
ضد المسلمين المصدقين بموسى *عليه السلام* وكتابه،
أما رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
فإنه لم يعاملهم إلا بما ظهر له،
وبما علمه ربه،
فعقد معهم معاهدة الند للند،
علي أن لهم دينهم وله دينه،
وقد كانت معاهدة تجلت فيها عظمة الإسلام ومبادؤه الخالدة،
رغم محاولات اليهود الدائبة
لتفتيت المجتمع المدني،
ورغم كيدهم المستمر،
ما ظهر منه وما بطن.
____________________________________________
مكائد اليهود::
========
دخل مُحَمّد*صلي الله عليه وسلم* يثرب
فوجد يهودها علي صنفين؛
بعضهم شكل تجمعًا كبيرًا مستقلاً،
والبعض الآخر ظل أفرادًا داخل قبائلهم المتعددة،
وعاهد *صلي الله عليه وسلم*
أتباع أخيه موسى *عليه السلام*
علي الصدق والنجدة والوفاء،
حتى يكونوا معه في أمة يثرب.
وحاول اليهود الذين احترقت أفئدتهم
حين أيقنوا بانتقال النبوة إلي ولد إسماعيل
حاولوا أن يفتتوا المجتمع المسلم
وهم إن أخفوا ذلك إلي حين
فإن بني قينقاع قد أظهروه بعد نصر المسلمين ببدر،
فأجلاهم النبي عن المدينة،
وظنت بنو النضير
*بعد هزيمة المسلمين بأحد*
أنها قاتلةٌ مُحَمّدا،
وهمت بذلك،
فألحقها المسلمون بأختها خارج أسوار المدينة الوادعة.
ومرة أخري سعت يهود بالغدر حين ألبت الأحزاب لغزو المدينة،
ثم أظهرت بنو قريظة الخيانة،
حين ظنت أن المسلمين قد انتهي أمرهم،
فحالفت قريشًا ومن معها،
ولكن الله تعالي نصر عبده،
وأعز جنده،
وهزم الأحزاب وحده.
فدفعت بنو قريظة ثمنًا فادحًا لخطيئتها الفادحة.
ويبدو أن تطهير المدينة لم يعد كافيًا؛
إذ تجمعت رؤوس الفتنة والغدر بخيبر،
تنسج بليل المكائد للمسلمين.
فذهب إليهم النبي ليحاربهم وجهًا لوجه كما ألف،
لا دسًّا وغيلة كما اعتاد الخائنون،
ولم يعد إلا ونصر الله يخفق بجناحيه فوق جيشه الميمون.
وبعد،
فقد بقي اليهود في دين الله، ودولة المسلمين،
أمة من الأمم،
لها ما للمسلمين،
وعليها ما عليهم،
ما بقي أتباعها مسالمين وادعين،
أما إن أظهروا الغدر والعداء،
فجزاء الغادرين المعتدين في دين الله صارم قاطع،
ليهود أو غيرها!.
___________________________________________
تأسيس مجتمع جديد::
=============
ما أيسر أن نطوف بخيالنا في دروب مدينة فاضلة،
نصف معالمها لمن حولنا حين نفيق!
ثم ما أعظمها من مهمة حين ننهض؛
لنقيم بسواعدنا ما طمح إليه ذلك الخيال،
إن تغيير المجتمعات إلي الأفضل
يبقي أصعب مهمة واجهها الإنسان،
ذلك أنه يبدأ من واقع اختلطت فيه آمال الناس وآلامهم،
بأعرافهم وأخلاقهم،
ثم بأوضاعهم ونظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
وعليه أن يتعامل مع ذلك كله؛
ليحوله إلي مثاله المنشود،
وقد كانت تلك هي المهمة
التي طفق رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
يعالجها منذ وطئت قدمه الشريفة أرض المدينة وحتى وفاته،
وبها بدأ التقويم الإسلامي للتاريخ،
إن بذور الإسلام التي بذرها مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*
في صدور أصحابه بمكة قد نمت وأينعت،
وصارت حياة كاملة تراها في أسواق المسلمين،
وتجارتهم.
وتلحظها في عمارة دورهم،
وتخطيط شوارعهم،
ولهوهم ومرحهم،
كما تجدها في خلقهم
وأعرافهم،
ونظمهم،
وحربهم
وسلمهم.
وتشاهدها دومًا إن حدثت الناس،
أو تجولت في المكان!.
ولقد بدأ رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
طريقه الشاق ذلك ببناء المسجد،
ثم بترسيخ المؤاخاة،
وبعقد ميثاق التحالف
*دستور الدولة*،
بث الخلق،
ورفع المعنويات،
ثم بمعاهدته مع اليهود،
حتى إذا استقر له الأمر،
واطمأن إلي الأساس،
شرع يقيم بجد وجلد
بناء مجتمعه المنشود،
والذي قاوم بذكاء محاولات تفتيته المختلفة.
_____________________________________________
بناء المسجد وتشريع الأذان::
================
كان أول ما طالعته عيون المسلمين بالمدينة
بعد نزول النبي *صلي الله عليه وسلم*
علي أبي أيوب
رؤيتها رسول الله يشمر عن ساعديه،
وينقل اللبن والحجارة بانيًا مسجده النبوي منشدًا:
اللهم لاعيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة
وقد أقيم المسجد في المكان الذي بركت فيه ناقة المصطفي،
بعد أن اشتراه من يتيمين يملكانه،
فسوي أرضه،
وأقام أعمدته من الحجارة،
وحوائطه من اللبن والطين،
وسقفه من جريد النخل،
وعمده من الجذوع،
وفرشت أرضه من الرمال والحصباء،
وجعلت له ثلاثة أبواب.
وبني النبي *صلي الله عليه وسلم*
إلي جانبه
حجرات أزواجه،
من الحجر اللبن،
وسقفها بالجريد والجذوع.
وإلي جانب كونه مكانًا للعبادة والصلاة
فقد ظل المسجد منتدى تلتقي فيه جموع المسلمين،
وجامعة يتلقون فيها علومهم،
وبرلمانًا لعقد المجالس الاستشارية،
بل ودارًا يأوي إليها فقراء المهاجرين
الذين عدموا الدار و المال والأهل بمكة.
وكان تشريع الأذان في بداية الهجرة
ميلادًا لصيحة الحق
التي لازال المسلمون يتمتعون بسماعها
خمس مرات كل يوم وليلة.
___________________________________________
تشريع الأذان::
========
ما أعظم القلوب حين تتجلى
فيتراءى الحق علي صفحتها!
إن صحابيًا جليلاً هو عبد الله بن زيد
رأي في منامه رجلاً عليه ثوبان أخضران،
يحمل ناقوسًا في يده،
فأراد أن يبتاعه منه حتى يدعو به إلي الصلاة،
فسأله الرجل:
أفلا أدلك علي خير من ذلك؟
ثم أرشده إلي كيفية الأذان.
وأسرع ابن زيد إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم*
يخبره الخبر
فقال له:
إنها لرؤيا حق إن شاء الله،
ثم أمره أن يعلمها بلالاً صاحب الصوت النّدي؛
ليؤذن بها بين الناس.
أما بلال فإنه ما إن بدأ أذانه
حتى فوجئ المسلمون بعمر بن الخطاب
يسرع في الطريق يجر رداءه قائلاً:
يا نبي الله،
والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأي!!.
وهكذا يتضح أن من شغل قلبه بالبحث عن الحق
لا يلبث إلا أن يهديه الله إليه.
_______________________________________________
المؤاخاة وميثاق التحالف::
===============
أوس
وخزرج
فرقت بينهما حرب بعاث،
وقرشيون
ويثربيون
فرقت بينهم عصبية الجاهلية وحميتها،
كان هذا
هو أول ما التفت إليه مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*
بعد أن أتم بناء المسجد!.
وفي دار أنس بن مالك
كان اجتماع تسعين رجلاً من المسلمين،
نصفهم من المهاجرين
ونصفهم من الأنصار،
يؤاخي رسول الله *صلي الله عليه وسلم*
بين كل اثنين منهم علي المواساة،
بل والميراث أيضًا،
ولقد كانت لحظة رائعة في تاريخ الإنسانية،
ذابت فيها روابط الجنس واللون والدم
حين قويت وتآلفت روابط الدين والعقيدة.
ثم عقد النبي *صلي الله عليه وسلم*
ميثاق تحالف بين المهاجرين والأنصار
تأكيدًا ودعمًا لمبدأ الأخوة والتراحم،
اللازم لبناء المجتمع.
ولم يكن من العجيب بعدئذ
أن تلمح سعد بن الربيع
يعرض علي عبد الرحمن بن عوف *رضي الله عنهما*
أن يطلق له زوجته،
ويعطيه نصف ماله،
كما لم يكن من المستغرب
أن نري الأنصار والمهاجرة
قد علت أصواتهم عند النبي،
فالأنصار يقولون:
اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل،
فيرد عليهم النبي *صلي الله عليه وسلم*
قائلاً:
لا.
فيقولون:
فتكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة،
فترد المهاجرة:
سمعنا وأطعنا.
________________________________________
ميثاق التحالف::
=========
مجتمع وليد،
وواقع متحول،
ودولة يراد لها القيام
لا بد لكل ذلك جميعًا من دستور واضح مستقر،
ينظم لهم أمورهم،
ويرجعون إليه
ومن قوله للمسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب:
إنهم أمة واحدة من دون الناس،
إلي قوله:
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء
فإن مرده إلي الله *عز وجل*،
وإلي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*،
كانت بنود هذا الدستور النبوي لمجتمع المدينة.
ولاشك أن روح هذا الميثاق
قد تجلت في مبدأين أساسين:
1. الرابطة هي العقيدة.
2. والحكم هو الله.
وقد شمل هذا الميثاق أيضًا
معاهدة مع اليهود،
تليت بمعاهدات مع قبائل عربية متفرقة.
________________________________________
بث الخلق ورفع المعنويات::
================
"يا أيها الناس:
أفشوا السلام،
وأطعموا الطعام،
وصلوا الأرحام،
وصلوا بالليل والناس نيام،
تدخلوا الجنة بسلام".
ذلك كان درس الإسلام الأول،
علي يدي النبي *صلي الله عليه وسلم*
حين دخل المدينة،
الإحسان إلي المخلوق،
والإحسان مع الخالق،
روح الرسالة وجوهرها!.
وما مضت إلا سنوات قلائل
حتى توفي رسول الله،
وقد ترك مجتمعًا أنموذجًا في خلقه وفضله،
مجتمعًا يعلم أن إماطة الأذى عن الطريق
شعبة من شعب الإيمان
، كما يعلم أن التراحم والتواصل
سر قوته ونصرته،
إن المعنيين باللوائح والدساتير
سيبهرهم ميثاق التحالف،
كما إن المهتمين بروح القانون ومقاصده
سيدهشهم ذلك المجتمع المسلم
الذي صنعه مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*.
(يتبع)
====